عندما تسمع كلمة «تسويق»، قد يكون أول ما يتبادر إلى ذهنك هو «الإعلانات». خاصة مع إصرار منصات إعلانية مثل انستجرام وفيسبوك على وضع زر «الترويج» الأزرق بمتناول يد الجميع وكأن التسويق وإطلاق الحملات الإعلانية أصبح عبارة عن ضغطة زر، بينما كل ما تريده منصات الشبكات الاجتماعية هو تشجيع أصحاب الأعمال الناشئة الذين لا يمتلكون الخبرة المسبقة لإنفاق أي سنتات محتملة.
ومثلما الآن تختزل لوحة تحكم مدير الإعلانات العملاقة التي يعمل عليها المسوقين المتخصصين من خلف أجهزة الحاسوب، إلى «ضغطة زر» في الهواتف الذكية، بالمثل أصبح «التسويق» ككل يختزل في جزئيات لا تشكل ربما سوى 10% من معانيه، ومسؤولياته، ومهامه.
هذه المقدمة كان لابد منها في واقع الأمر، لإخراج تفكيرنا من تلك التصورات وإن كانت جزء لا يتجزأ من التسويق، ولتوسعة نظرتنا إلى مظلة التسويق الكبرى، وبخاصة التسويق بشكله المعاصر أو الحديث، الذي تطورت مفاهيمه وأسسه لتوظيف كافة طاقات وإمكانيات العصر في توصيل رسالته.
أي رسالة؟
من حيث الأصل؛ التسويق في أبسط صوره، يمكن تخيله على هيئة «ساعي بريد»، بين طرفين. يعمل على توصيل الرسائل من البائع إلى المشتري، ومن المشتري أيضاً إلى البائع.
على عكس ما يظن البعض أنه رسالة من طرف واحد، من طرف البائع إلى المشتري وانتهت الرحلة!
التسويق الحديث
ومن هذا المنطلق، بدأ التمييز بين التسويق التقليدي الذي كان يتمحور حول «البائع»، ويعمل من طرف واحد، كأن تقول، «أنا لدي كذا، تعال اشتر»، لينتقل الآن تمحوره مع التسويق الحديث حول «المشتري» إن جاز التعبير، وكأنه أصبح «أنا أريد كذا، أعطني ما أريد». لتبدأ الشركات بتكييف نفسها لتلبية احتياجات السوق.
والمذهل في الأمر؛ رغم أن الآية انقلبت كما يبدو، إلا أن هذا النموذج الذي يتبناه التسويق الحديث أدى لزيادة قدرة الشركات على الربح والاستحواذ والنمو، عندما بدأت تتمحور حول «عميلها»، عوضاً عن التمحور حول ذاتها ورغباتها.
ما هي عناصر ومكونات نموذج التسويق الحديث؟
يقوم التسويق الحديث اليوم على مجموعة مكونات أساسية، كل واحدة منهم هي علم قائم بذاته بالتأكيد، لكن يمكن تلخيص هذه العناصر العشرة في النقاط التالية:-
الاستراتيجية والرؤيا – Strategy & Insights
في عالم اليوم، المليء بالمنافسة وسريع التجدد، أصبح لزاماً على كل علامة تجارية أن تمتلك رؤية واضحة لعلامتها التجارية «Brand Vision»، وأن تمتد رؤيتها إلى ما هو أبعد من أرباح اليوم أو الشهر.
كما يجب صقل استراتيجية العلامة التجارية دورياً بالاستناد إلى المؤشرات الحية التي ينقلها جناح التسويق إلى الإدارة العليا، لذلك الفجوة الإدارية السابقة بين جناح التسويق والإدارة والمالية، تقلصت بشكل كبير في الآونة الأخيرة، وعلى إدارة التسويق أن تبقى على اتصال مباشر مع الإدارة إما بشكل أسبوعي أو شهري كحد أقصى للمساعدة بتوجيه بوصلة العلامة التجارية واستراتيجياتها ورؤيتها.
الأصول والمحتوى – Creativity & Content
الوحدات العقارية هي أحد أشهر الأصول المالية، لكن في عالم التسويق الرقمي، كل قطعة محتوى هي إحدى الأصول الرقمية التي يمتلكها نشاطك التجاري. بهذه العقلية يتعامل التسويق الحديث مع قطع المحتوى، سواء أكانت قطعة المحتوى عبارة عن إعلان أو مقالة أو أين كان.
لماذا الأصول الرقمية؟
لأن هذه الأصول قادرة على جلب المنفعة لمشروعك ولو بعد 10 سنوات.
استراتيجية المحتوى الدائم
لذلك التسويق الحديث يتبنى مفهوم المحتوى الدائم «Always-on Content»، وهي الاستراتيجية القائمة على وضع آليات ثابتة أشبه بخطوط الإنتاج، لصناعة المحتوى القيمي والترويجي بشكل دوري، ومن ثم تحسينه واختباره وتحليله وإعادة تدويره. فضلاً عن توظيف الأدوات التقنية لفهم المحتوى المرغوب من قبل الجماهير.
وسائل التواصل – Media & Channel Activation
تكوين شخصية خاصة بتواجد العلامة التجارية على كل منصة من منصات الشبكات الاجتماعية، ولو احتاج الأمر لصناعة محتوى مستقل خاص بكل منصة مع أساليب عرض مختلفة، إلى جانب رؤية شمولية لدور كل وسط من أوساط التواصل مع الجمهور بسياق المظلة الكبرى لرحلة العميل.
تجربة العميل والتخصيص Customer Experience & Personalization
مثلما أشرت بداية كل باب من أبواب التسويق الحديث هي مدخل كامل وقائم بذاته، وعلى سبيل المثال؛ إدارة تجربة العميل وتخصيصها، هي بحد ذاتها قطاع خدمات تبلغ قيمته مليارات الدولارات وتعمل به ألاف الشركات في العالم لتقديم الخدمات التقنية الكافية لتفعيل علوم هذا الباب.
في نهاية المطاف؛ كافة هذه الأدوات والأساليب تهدف لاستخلاص المعلومات من بيانات العملاء لتخصيص رحلة العميل، بحيث تنتقل صيغة خطابك وقيمة منتجاتك من منتج 1 موجه إلى كافة فئات الجمهور، إلى مستوى يصبح لديك فيه منتج موجه لكل شريحة من شرائح الجمهور. فلو كان جمهورك ينقسم إلى 3 شرائح، يصبح لديك 3 منتجات أو 3 طرق عرض لمنتجك لتستطيع استقطاب الشرائح الثلاثة المختلفة من الجمهور.
القياس وعقلية الأداء– Measurement & Marketing ROI
هذا الباب تحديداً مثل سابقه، بل أضخم من حيث حجم السوق والشركات العاملة فيه؛ حيث يوجد عدد لا متناهي من الأدوات أيضاً لتسيير عمل المسوقين وتمكينهم من تتبع وقياس وتحليل كل حركة من تفاعل الجمهور مع علامتهم التجارية، سواء أكانت على الموقع الإلكتروني، التطبيق، الحملة الإعلانية، البريد الإلكتروني، وغير ذلك مما لا يحصى. على سبيل المثال؛ أصبح بإمكان المسوقين الحصول على تسجيلات فيديو لزيارة العملاء لصفحات هبوطهم أو مواقعهم الإلكترونية مثلاً، يظهر لك رحلة العميل من لحظة هبوطه في الموقع إلى حين إغلاقها ومع كل لمسة وضغطة قام بها. بالتأكيد بدون إظهار هوية أو كاميرا العميل، إنما الفيديو يقوم بتسجيل ما يجري على الشاشة فقط، لدراسة سلوك وتفاعل العميل مع المحتوى الذي أمامه.
كذلك لا نغفل عقلية الـ ROI، التي يعمل من خلالها المسوق على قياس كل جهود وإنفاق العلامة التجارية ضمن معادلة حساب العائد على الاستثمار ROI، فإذا وجدت أي أنشطة تستنزف موارد المؤسسة المالية أو البشرية بدون جدوى مالية تذكر، عليك البدء بالتفكير بإلغائها أو تقنينها.
المنتج والتسعير – Product & Pricing
في السابق؛ كان يتم التسعير وتصميم المنتجات أو الخدمات، إن جاز التعبير «بالمزاج»، بمزاجية وعقلية صاحب العمل، لذلك كثير منهم يدخل السوق ولا يستطيع التقدم شبر واحد حتى في السوق بالهيكلية التي قام بها بتسعير منتجاته أو خدماته حسب رغباته الشخصية. لكن اليوم أصبح التسويق الحديث متصل بالتسعير وبالمنتج بشكل مباشر، وقادر على استقراء السوق والجمهور للمساعدة بتطوير المنتجات بما يعزز من فرصة المؤسسة في السوق، وبما يساعد المؤسسة على استقطاب أكبر نسبة من شريحتها المستهدفة.
ثقافة المؤسسة – Organizational Design & Culture
مثلما تحدثنا في المقدمة؛ التسويق الحديث أصبح يتبنى مفهوم التواصل ذهاباً وإياباً، من البائع إلى المشتري ومن المشتري إلى البائع، عكس التسويق القديم، المتمحور حول البائع فقط. لذلك نؤكد مرة ثانية على أهمية اللقاءات الدورية بين أجنحة التسويق والإدارة والتشغيل، لنقل جديد الرؤى والاستقراءات وتخليق التعاون الحثيث بين أركان هذا المثلث.
الإدارة الرشيقة – Agile Management
الإدارة الرشيقة المعروفة بالـ «Agile»، كما قمنا بدراستها في مجلس إدارة المشاريع الأميركي PMI الذي يمنح اعتمادات مدراء المشاريع المعروفة بـ PMP، أصبحت ضرورة بادئ الأمر في مختلف أقسام المؤسسات حقيقة، إلا أنها أشد ما تكون حاجة في إدارات التسويق، لأن المسوقين دائماً مقيمين في بيئة كثيرة وسريعة التغير، شهرياً هناك تطورات أو تغييرات جديدة على حقول العمل وحقول المعرفة.
لذلك التسويق الحديث يتبنى مفاهيم الإدارة الرشيقة للتكييف مع متغيرات السوق، والاختبار والتعلم بسرعة، إلى جانب تعزيز دور التعاون بين الأقسام، وبخاصة التسويق، المحتوى، والتصميم، والتطوير.
العقلية والموهبة – Talent & Agency Management
مع التسويق الحديث، تنتقل عقلية الشركات من الاتكالية والذاتية في أنشطتها التسويقية على موظفين غير متخصصين إلى الاستقطاب والحفاظ على وتدريب وترقية مواهب الموظفين المتخصصين في أنشطة إدارة التسويق، سواء أكانوا مسوقين أو مصممين، أو صناع محتوى أو مطوري واجهات مستخدم، وغيره من أدوار.
التكنولوجيا والبيانات – Data & Technology
في هذا السياق؛ دائماً ما أحب أن أقتبس مقولة قرأتها في أحد كتب التسويق، كان يقول صاحبها «البيانات هي نفط العصر الجديد». هل تعلم متى قالها؟ قالها على ما أذكر قبل 30 سنة، فإن كان لا يزال حياً، هل له كان أن يتخيل حجم التقدم التكنولوجي الذي نعيشه اليوم؟ ماذا كان سيقول إذاً عندما يشاهد إمكانيات تكنولوجيا البيانات على قيادة أسهم الشركات التجارية إلى الأعلى بزاوية 90 درجة؟
فاليوم قطاعات وشركات كاملة تقوم اقتصادياتها على البيانات، مثل شبكات المنصات الإعلانية كلها، فهي التي تقود وتوجه بوصلة الحملات الإعلانية إلى الجمهور المستهدف.
لذلك أحرص دائماً على تفعيل هذا العنصر من نموذج التسويق الحديث، في كل شركة أعمل لصالحها من خلال توظيف آخر تكنولوجيا العصر ونظم تتبع البيانات والأتمتة لتعزيز وتوجيه أداء العلامة التجارية.
من أهم الأشياء التي أوصي كل مسوق بالتمكن منها هي أدوات التتبع والأتمتة الشهيرة، مثل جوجل تاج منجر GTM، وواجهة الاتصال بالتطبيقات API’s.
مقارنة بين التسويق الحديث والتسويق التقليدي
بذلك تكون قد اكتملت رؤيتك لعناصر ومقومات نموذج التسويق الحديث، والتي يمكنك الآن الإبحار بدراسة أبوابها واحداً بواحد لتفعيل هذا النموذج في علامتك التجارية، وتحسين أداء مشروعك.
يمكنك الاطلاع على هذا الجدول للحصول على مقارنة أكثر وضوحاً بين نموذج التسويق الحديث والتسويق القديم.
كما يسعدني مشاركتي لرأيك أسفل المقالة. أو طرح أي أسئلة حول أي من العناصر العشرة للإجابة عليه. كذلك لا تنسى مشاركة هذه المقالة مع موظفيك للتأكد من الفهم المشترك لها.